مقـامَــــة
الـسـعـادة
) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (
دع
الأيام تفعل ما تشاء
ولا تجزع لحادثة الليالي |
وطب
نفساً إذا حكم القضاء
فما لحوادث الدنيا بقاء |
قال الراوي : جاءنا رجل مهموم ، قد أنهكته الغموم ، فهو
من الحزن مكظوم ، فقال : أيها الناس ، حل بنا البأس ، وذهب منا السرور والإيناس ،
وتفرد بنا الشيطان ، فأسقانا حميم الأحزان ، فهل منكم رجل رشيد ، رأيه سديد ، يصرف
عنا هذا العذاب الشديد ، فقام شيخ منا ، ينوب عنا ، وهو أكبرنا سنا ، فقال : أيها
الرجل الغريب ، شأنك عجيب ، تشكوا الهم والوصب ، والغم والنصب ، وأراك لم يبق منك
إلا العصب، أما تدعوا الرحمن ، أما تقرأ القرآن ، فإنه يذهب الأحزان ، ويطرد
الوحشة عن الإنسان ، ثم اعلم وافهم ، لتسعد وتسلم ، إن من أعظم الأمور ، في جلب
السرور ، الرضا بالمقدور ، واجتناب المحذور ، فلا تأسف على ما فات ، فقد مات
، ولو أنه كنوز من الذهب والجنيهات ، واترك المستقبل حتى يقبل ، ولا تحمل همه
وتنقل ، ولا تهتم بكلام الحساد ، فلا يحسد إلا من ساد ، وحظي بالإسعاد ، وعليك
بالأذكار ، فيها تحفظ الأعمار ، وتدفع الأشرار ، وهي أُنس الأبرار ، وبهجة الأخيار
، وعليك بالقناعة ، فإنها أربح بضاعة ، واملأ قلبك بالصدق ، واشغل نفسك بالحق ،
وإلا شغلتك بالباطل ، وأصبحت كالعاطل ، وفكر في نعم الله عليك ، وكيف ساقها إليك ،
من صحة في بدن ، وأمن في وطن ، وراحة في سكن ، ومواهب وفطن ، مع ما صرف من المحن ،
وسلم من الفتن ، واسأل نفسك في النعم التي بين يديك ، هل تريد كنوز الدنيا في
عينيك ؟ أو أموال قارون في يديك ؟ أو قصور الزهراء في رجليك ؟ أو حدائق دمشق
في أذنيك ؟ وهل تشتري ملك كسرى بأنفك ولسانك وفيك ، مع نعمة الإسلام،ومعرفتك
للحلال والحرام ، وطاعتك للملك العلام ، ثم أعطاك مالاً ممدودا ، وبنين شهودا ،
ومهّد لك تمهيدا ، وقد كنت وحيدا فريدا . واذكر نعمة الغذاء والماء والهواء ،
والدواء والكساء ، والضياء والهناء
مع صرف البلاء ، ودفع الشقاء .
ثم افرح بما جرى عليك من أقدار ، فأنت لا تعرف ما فيها
من الأسرار ، فقابل النعمة بالشكر ، وقابل البلية بالصبر ، وإذا أصبحت فلا تنتظر
المساء ، واغفر لكل من قصّر في حقك وأساء ، واغسل قلبك سبعاً من الأضغان ، وعفّره
الثامنة بالغفران ، وانهمك في العمل ، فإنه يطرد الملل ، واحمد ربك على العافية ،
والعيشة الكافية ، والساعة الصافية ، فكم في الأرض من وحيد وشريد ، وطريد وفقيد ،
وكم في الأرض من رجل غلب ، ومال سلب ، وملكه نهب ، وكم من مسجون ، ومغبون ومديون ،
ومفتون ومجنون ، وكم من سقيم ، وعقيم ويتيم ، ومن يلازمه الغريم ، والمرض الأليم
واعلم أن الحياة غرفة بمفتاح ، تصفقها الرياح ، لا صخب
فيها ولا صياح ، وهي كما قال ابن فارس :
ماء
وخبز وظل
كفرت نعمة ربي |
ذاك
النعيم الأجل
إن قلت إني مقل |
واعلم أن لكل باب من الهم مفتاح من السرور ، للذنب رب
غفور ، والفلك يدور ، وأنت لا تدري بعواقب الأمور ، وملك كسرى تغني عنه كسرة
، ويكفي من البحر قطرة ، فلا تذهب نفسك على الدنيا حسرة ، ولا تتوقع الحوادث ، ولا
تنتظر الكوارث ، ولا تحرم نفسك لتجمع للوارث ، ويغنيك عن الدنيا مصحف شريف ، وبيت
لطيف ، ومتاع خفيف ، وكوز ماء ورغيف ، وثوب نظيف .
والعزلة مملكة الأفكار ، والدواء كل الدواء في صيدلية
الأذكار ، وإذا أصبحت طائعاً لربك ، وغناك في قلبك ، وأنت آمن في سربك ، راضٍ
بكسبك ، فقد حصلت على السعادة ، ونلت الزيادة ، وبلغت السيادة .
واعلم أن الدنيا خداعة ، لا تساوي همّ ساعة ، فاجعلها
طاعة .
فلما انتهى من وعظه ، أعجب بلفظه ، وحسن لحظه ، وقال له
: جزاك الله عني أفضل الجزاء ، فقد صار كلامك عندي أشرف العزاء .

ليست هناك تعليقات: